منصة التعليم عن بعد - جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف (2024)

السلام عليكم و رحمة الله تعالى

يمكن لطلبة السنة الأولى جذع مشترك،مقياس :النقد الأدبي القديم ،الإطلاع على المحاضرات من خلال هذا الفضاء.

تمنياتي لكم بالتوفيق

رمضان مبارك

المحاضرة الأولى : النقد في العصر الأموي

اشتد العصف السياسي في العصر الأموي،اشتدادا قويا،بسببالصراع على الخلافة،بين الأمويين و الهاشميين و الزبيريين،و ما انشق عنهم من أحزابسياسية و فرق دينية،فكان منها ما يوالي و منها ما يعارض.و سحب الجدال السياسي والديني أذياله،على منابر و ساحات هؤلاء جميعا،ثم استتبعه الجدل الثقافي و أصبحت لهساحاته و منابره الخاصة.

و قد لاحت سماء الأدب العربي‘معالم لثلاث مدارسأدبية:واحدة في الحجاز و الثانية في العراق و الثالثة في الشام

1 مدرسة الحجاز:

الحجاز خزانة للأموال التي جمعها الأمراء و القادةالجيوش الإسلامية،إذ اكتست أهمية كبيرة و ازدادت أهمية في العصر الأموي.فشهدتالثراء و الإستقرار،و قد نتج عن هذا الترف،ظهور الغناء مع مجيء الجواري من مختلف النواحي،فتفشىالفساد،و قد كانت الحجاز من ناحية أخرى،مركزا دينيا،يدرس فيه القرآن و يشرح فيهالحديث،فصار العديد من الرجال المسلمين يفدون إليه من مختلف الأقطارالإسلامية،ليأخذوا عن رجاله علمهم بالكتاب و السنة،فكان الحجاز مركزا دينيا و بيئةللهو الترف معا.

و قد ازداد تدفق الأموال على الحجاز من الشام "مركزالخلافة".دفع هذا الجو المترف الناس،نحو الأخذ بمتع الحياة و اللهو و الغناءو الموسيقى،و قد عكس الشعراء ذلك في شعرهم،و مالو إلى الغزل الذي صور الواقعالمعاش،و طبع النقد بنفس السمة،إذ انكبالنقاد على دراسة هذا اللون من الشعر،و منأبرز الأسماء الناقدة شخصيات هامتان: "ابن أبي عتيق"و "السيدةسكينة بنت الحسين ابن أبي طالب".حيث كان يلتقي بها الشعراء،فتناقشهم فيقصائدهم،و مما ورد عنها،حكمها على بيت جرير:

طرقت صائدة القلوب و ليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام

فقالت:"أفلا أخذت بيدها ورحبت بها،و قلت ادخلي بسلام؟أنت رجل عفيف"،إذ فرقت بين الكلام عنالأحاسيس العاطفية و الأخلاق،فالشاعر يتكلم عن العواطف لا عن الأخلاق،و حين نستقبلعزيزا ليس كما نستقبل شخصا عاديا.

ورد عنها كذلك لـ "نُصَيْب"

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت فوا حزنا من ذا يهيم بهابعدي

فعابت عليه السيدة سكينة،صرف نظره إلى من يعيش مع"دعد" و رأت من الصواب أن يقول:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت فلا صلحت دعد لذي خُلَّةبعدي

أما "ابن أبي العتيق"فقد تميز بنقد شعر "عمر بن أبي ربيعة"،إذقال هذا الأخير منشدا في غرض الغزل:

بينما ينعتنني أبصرنني دون قيد الميل يعدو بيالأغر

قالت الكبرى أتعرفن الفتى؟ قالت الوسطى:نعم هذا عمر

قالت الصغرى و قد تيّمتها قد عرفناه و هل يخفى القمر؟

فقال ابن أبي عتيق معلقا:أنت لم تنسب بها،و إنما نسبتبنفسك،أي تغزل بنفسه.

سمع عمر ابنأبي ربيعة "كُثِيراً " يقول:

ألا ليـتنـايـا عـزَّ كـنّا لذي غِنًى

بعيرَينِ نرْعى في الخلاءِ ونَعْزُبُ

نكونُ بعيرَي ذي غِنًى فيُضيعُنا

فـلا هـو يـرعـانـا ولا نحـنُ نُطلبُ

كـلانـا بـه عُـرٌّ فـمـن يـرَنـا يقُلْ

على حُسنها جرْباءُ تُعْدي وأجرَبُ

إذا ما وردْنا منهلاً صاحَ أهـلُـه

عـلينا فـما ننفكُّ نُـرْمـى ونُضـربُ

وددْتُ وبــيـتِ الله أنّـكِ بــكْــرَةٌ

هـجـانٌ وأنّـي مُـصـعـبٌ ثمَّ نَهْرب

فقال عمر:تمنيت لها و لنفسك الرِّق و الجرب و الرمي والطرد و المسخ،فأي مكروه لم تتمنه لك و لها؟لقد أصابها منك قولالقائل:"معاداة عاقل خير من مودة أحمق".

هذا و قد حدد النقاد الحجازيون "الغلو والمبالغة" مقياسا،في رسم العاطفة.و من ثمة صار إذا ما عبّر الشاعر عن عاطفتهبغلو،أو بصورة خارجة عن المألوف،كانت غريبة مضحكة،تشبه النوادر.قال عمر بن أبيربيعة شعرا فيه فلو:

و من كان محزونا بإهراق عبرة و هي غربها فليأتنا نبكه غدا

نُعنه على الأثكال إن كان ثاكلا و إن كان محزونا و إن كانمقصدا

فمضى ابن أبي عتيق إلى عمر،و قال له:"جئناكلموعدك،قال : و أي موعد بيننا؟ قال: قولك:"فليأتنا نبكه غدا".و قد جئناكوالله لا نبرح أو تبكي،إن كنت صادقا، أو ننصرف على أنك غير صادق،ثم مضى و تركه.

إنّ مثل هذهالصورة زائدة عن اللزوم،في التعبير عن الأحاسيس العاطفية،و المواقف الإنسانية.بالتاليفهي صورة سافرة غير مقبولة؛ لأنها غير صادقة .

2 ـ مدرسة العراق:

اختلف الشعر في بيئة العراق عما كان عليه في الحجاز والشام.فالشعر في العراق يشبه إلى حد كبير الشعر الجاهلي،في مضمونه و أسلوبه،و يعودذلك إلى عامل العصبية القبلية،التي ظهرت مجددا،بعد أن تلاشت في صدر الإسلام،حيثنبذها الإسلام.و تمثلت أغلب موضوعات الشعر في العراق:في الفخر و الإعتزاز و هجاءالخصوم،بالهجاء المر المقذع.أماّ غرض الغزل و غيره من الأغراض،فكانت ليست ذاتأهمية و قليلة الرواج.فانحصر الشعر في "النقائض"،التيحمل لواءها الثالوث الخطير:"الفرزدق،جرير والأخطل".الذين جعلوا من العراق أشهر مكان للتنافس في هذا اللون منالشعر.مما ساعد في انتشار "النقائض"وُلُوعَ الناس به في أسواق الشعر.

كان لكل شاعر حلقة ينشد فيها شعره،و يحمس أنصاره في جومملوء بالهرج و النقاش،حتى قيل أن والي البصرة، ضج بما أحدثه هؤلاء الشعراء، من صخب و اضطراب فيأوساط الناس، فأمر بهدم منازلهم.

و قيل أن "الأخطل"تحالف مع "الفرزدق" ضد "جرير"،لكن جرير أفحمهما شعرا.و قيل أنأكثر من أربعين شاعرا،تحالفوا ضده فأسكتهم،لقدراته و مهاراته في هذا الفن،حتىاعتبر الشاعر الذي لا يسير على طريقة هؤلاء في المدح و الهجاء،شاعرا متخلفا وضعيفا.حيث قال "ذو الرمة" "للفرزدق":{ماليلا ألحق بكم معشر الفحول؟فقال له:لتجافيك في المدح و الهجاء و اقتصارك على الرسومو الديار}.أي أنه ينظم على منوال القدماء.فالنقد في العراق تلاءم مع طبيعةالبيئة العراقية،و ما كان فيها من شعر،حيث اتجه النقاد إلى الموازنة بين الشعراء وأيُّ الثلاثة أشعر؟و سموا هذا قضاء،و الذي يحكم قاضيا،و سموا "الحكم" و"الحاكم:"حكومة".قال جرير في الأخطل لماّ فضل الفرزدق عليه:

فدعوا الحكومة لستموا من أهلها إنّ الحكومة في بني شيبان

لم يكن هذا النوع من النقد الوحيد في العراق،لأن هناكبعض الشعراء من قال شعرا خارج النقائض.لذلك عُنِيَ النقاد بمميزات الشاعر.و ماتفرد به عن غيره،و البحث عن مواطن قوته و ضعفه و موازنته بغيره و إصدار الحكمعليه.حكم الفرزدق على النابغةالجعدي بأنه صاحب خلقان.فالبيت عنده يساوي آلافالدراهم و ليست لا يساوي درهما.و هو حكمه على ذي الرمة بجودة شعره لولا وقوفه عندالبكاءو الدمن.

و حكم على الأخطل بأنه يجيد مدح الملوك.و موازنة الأخطل بين جرير و الفرزدقبأن جريرا يغرف من بحر،و الفرزدق ينحت من صخر.إلى جانب نقد الموازنة في شعرالنقائض.و النقد الذي عني بإبراز ما نفرّد به بعض الشعراء عن غيرهم.فهناك نقديُعنى بالمعاني الجزئية في شعر الشاعر دون موازنته بغيره.فقد نقد "الحجاجالفرزدق" حين مدحه قائلا:

من يأمن الحجاج و الطير تتقي عقوبته إلاّ ضعيف العزائم

فقال الحجاج:"الطير تتقي كل شيء،حتى الثوب والصبي.و فضل عليه قول جرير في نفس المعنى:

من يأمن الحجاج أما عقابه فمر و أما عهده فوثيق

3ـ مدرسة الشام:

إذا كان أكبر مظهر للأدب في الحجاز هو الغزل،و أكبر مظهرللأدب في العراق الفخر و الهجاء،فإن أكبر مظهر للأدب في الشام هو المديح،و لذلكاختلفت الحركة النقدية في الشام على ما كانت عليه في الحجاز و العراق،وفقد عاشتالحركة النقدية هناك في بلاط الخلفاء الأمويين و قصورهم في مختلف الأقاليم والأمصار،و سبب ذلك أن دمشق كانت عاصمة الخلافة الأموية،يفد الشعراء إلى خلفائها منكل حدب و صوب،و كان بنوا أمية عربا،أقحاحا فصحاء،يتذوقون الشعر و يعجبون به ويطربون لسماعه،و يكافئون الشعراء عليه،و كانت قصورهم شبه منتديات للشعر و مراكزللمناقشات،في مختلف القضايا الأدبية،و ما يناسب القصور هو المديح،لذلك لُوِّنالشعر بهذا اللون،و لُوِّن النقد بلونه أيضا.

شجع الخلفاء الشعراءَ على مدحهم،و الرد على خصومهم"شيعة"و "زبيريين"،و منحوهم مقابل ذلك جوائز مالية معتبرة.ومن أبرز هؤلاء الشعراء "كُثير عزة"و "الأخطل".و قد ارتبطالنقد بطبيعة الشعر.و من أشهر نماذج شعرالمديح ذاك الذي كان يُعرض على "عبد الملك بن مروان"،إذ كان يملك ذوقارفيعا مكّنه من الفهم العميق لمحتوى الشعر و صياغة و توجيه الشعراء و إرشادهم.

تميزت حركةالنقد في الشام بميزتين:"النقد الرسمي"و "النقد الفني".أماالنقد الرسمي فهو ذلك الذي يمثل وجه الخلاف في الرؤيا بين الشاعر و بين الخليفةالممدوح في رسم صورته الشخصية،لأن رجل السلطة يرى نفسه شخصية متميزة غير عادية،ومن ثم كان على الشاعر أن يأخذ ذلك في الحسبان،و من ذلك ما جرى بين عبد الملك بنمروان و ابن قيس الرقيات،حين مدحه بقصيدة جاء فيها:

إنَّ الأغرّ الذي أبوه أبو العاص عليه الوقار و الحُجُبُ

يعتدل التاج فوق مفرقه على جبين كأنه الذهب

فقال الخليفة:"يا ابن قيس،تمدحني بالتاج كأني منالعجم!،و تمدح مصعبا كأنه شهب من الله .إشارة إلى قول الشاعر:

إنما مصعبشهاب من الله تجلت عن وجههالظلماء

و قال جرير في يزيد بن عبد الملك:

هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقهم إلىّ قطينا

فعلق يزيد على معنى البيت قائلا:"يقول لي ابنعمي،ثم يقول لوشئت ساقهم إليَّ.أما لو قال:لو شاء ساقهم لأصاب،فقد جعلني شرطيا له.

لقد لفت عبد الملك بن مروان الشعر إلى رسم الصورةالشعرية،بما يناسب مقامه،و إبراز الفضائل الخلقية و الدينية التي تشير إلى إعجابالرعية ،و الدالة على التقوى و العدل والفضيلة.و كان تقدير عبد الملك للمقام و إحساسه بجودة المعنى و جمال الصورة إحساسادقيقا،ينم عن قوة و عمق تذوقه للشعر،فقد أنشده راعي الإبل مرة:

أخليفة الرحمان إنّا معشر حنفاء نسجد بكرة و أصيلا

عرب نرى الله في أموالنا حق الزكاة منزّلا تنزيلا

فقال له:ليس هذا بشعر،إنما هو شرح إسلام و قراءة آية،ويعني بذلك أنَّ مثل هذا الشعر قيِّم في مضمونه،جاف فقير من الناحية الفنية،وبالتالي ليس بالشعر الجيد الذي ينبغي أن يكون كذلك في المعنى و المبنى.

المحاضرة الثانية النقد الأدبي في العصر العباسي

تمهيد:

كان العصر العباسي،عصر قوة و ازدهارو تحضر،و كان أيضاعصر ترف و بذخ،و تحول فيه الشعر و الأدب إلى صناعة،بعد أن كان ينجم عن طبع وسليقة.و تعاظمت الثقافة و اتسعت،فشملت فروع المعرفة كلها،بالإضافة إلى ما وردإليها من ثقافات أجنبية:فارسية،هندية و يونانية.و تحولت هذه المعارف إلى علوم:علوماللغة و الأدب و النحو و الصرف...

و تحول الذوق الأدبي إلى ذوق مثقف ثقافة علمية واسعة،وتأثر النقد الأدبي بهذا التطور.

جمع العلماء العرب أشعار الجاهليين و الإسلاميين،فكوّنوامادة أدبية غزيرة،كما جمعوا مادة اللغة،و اطلعوا على أقوال النقاد السابقين،كمانُقِلت إليهم أقوال الفرس و الهندوس و اليونان في معنى البلاغة و شروطها،مما أفسح لهم مجال النقد،فارتقى الذوقو تبلور النقد و أصبح أكثر نضجا مما كان عليه قبلا.حيث سار النقد الأدبي في هذاالعصر على نمطين:

1ـ الأول:هو مجرد امتداد للنقد الجاهلي والإسلامي،متماشيا مع ما فرضته البيئة عليه من تحول،فكان علماء اللغة و الأدب منالنقاد، أمثال:"الخليل بن أحمد الفراهيدي"،"الكسائي" و"الأصمعي"،...كانوا يستعرضون أشعار الجاهليين و الإسلاميين،و ينتقدونشعرهم و يُبدون رأيهم فيه،فيقولون:{إن شعر النابغة قوي الصناعة شديد الأسر،و شعرامرئ القيس غزير بالمعاني التي لم يسبق إليها،و شعر جرير أسهل و أرق،و شعر الفرزدقأقسى و أصلب،إلى غير ذلك.}

كان هؤلاء العلماء يتنازعون في أفضلية الشعراء،فكان"المفضل الضبي" يقدم الفرزدق على جرير،"و أبو عمرو بن العلاء"يقدم الأخطل،ثم جرير ثم الفرزدق.كان علماء الكوفة مثلا:يقدمون الأعشى على من فيطبقته،و علماء البصرة يقدمون امرأ القيس،و أهل الحجاز يقدمون النابغة و زهيرا.وهذا راجع لأسباب منها:أنَّ بعض العلماء كان يحب الغريب من الألفاظ،فيقدم من الشعراءمن يستعمل الغريب،و منهم من يحب الغزل،فيقدم أكثرهم غزلا،و منهم من يحب النحوفيقدم الفرزدق؛لإكثاره من التقديم و التأخير و نحو ذلك.

كما وازنوا بين الشعراء،فقال "أبو عمرو بنالعلاء" في "أوس بن حجر":{أنه كان فحل مضر حتى نشأ النابغة و زهيرفأخملاه.}و قال بأن {"عدي بن زيد" في الشعراء بمنزلة سهيل فيالنجوم،يعارضا و لا يجري معها.}.و استعرضوا شعر الشعراء و أبانوا عن موضع نبوغهم وضعفهم،فقالوا:"طفيل الغنوي:أعلم العرب بالخيل و أوصفهم لها،و امرؤ القيسلَيُحسِن وصف المطر،و عنترة يحسن ذكر الحروب،و أُمية بن أبي الصِّلت يحسن ذكرالآخرة،و عمر بن أبي ربيعة يحسن ذكر الشباب.و شبهوا جريرا بالأعشى،الفرزدق بزهير والأخطل بالنابغة.

استعرضوا الشعراء الذين تواردوا في شعرهم على معنىواحد،ففضلوا قولاً على قول،إذ فضلوا في الصبر على النوائب قول "دريد بنالصمة":

يغار علينا واترين فيُشْتَفَى بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
بذاك قسمنا الدهر شطرين قسمة فما ينقضي إلاَّ و نحن على شطر

و قالوا:أجود بيت،قول جرير:

ألستمخير من ركب المطايا
و أندى العالمين بُطون راح

يشبه هذا النوع من النقد إلى حد بعيد،ماكان موجودا فيالعصر الأموي،إلاّ أنه أعمق منه و أوسع،لأن المادة الأدبية عندهم أغزر و أوفر،كماأنهم تفرغوا له فأصبح صناعة عندهم،إذ كان نقدهم معللا و ليس مجرد أحكام.فضل"الخلف الأحمر" قصيدة "مروان بن حفصة" التي مطلعها:

طرقتك زائرة فحييِّ جمالها بيضاء تُخلط بالجمال دلالها. 

على قصيدة "الأعشى" التي مطلعا:

رحلت سمية غدوة أجمالها فأصاب حبة قلبه و طحالها

فقال الخلف الأحمر معلقا على هذه القصيدة:{و الطحال مادخل في شيء قط إلاّ أفسده،و أما قصيدة مروان سليمة كلها،و هكذا من الأحكام المبنيةعلى التعليل.

2 ـ ثانيا: و هو النقد الجديد المحدث،الذي لم ُسبق إليه؛يتميزبالعلمية في النقد،هو نمط التأليف و وضع الكتب،التي تتعرض للنقد و ما يتصلبه،فكانت البصرة سباقة لذلك،بفضل الحركة العلمية التي زخرت بها هذه الأخيرة،إذْظهر فيها أول حركة للإعتزال؛و كان المعتزلة أول من وضع قواعد البلاغة،لحاجتهمإليها في الدعوة و إقامة الحجج،حيث وضع "بِشرُ بن المعتمر""الصحيفة الخالدة" في البلاغة،ثم تبعه "الجاحظ".بهذا انقسمالنقد في العصر العباسي إلى قسمين: "قسم الأحرار وقسم المحافظين"،فكان "بشار بن برد"،"مسلم بنالوليد" و .... من المجددين الذين حملوا على عاتقهم مهمة تجديد المعاني والأسلوب.

هذا الإنقسام في النقد بين المحافظة و التجديد،أدّى إلىانقسام النقاد بين : مؤيد للجديد و معارض له،و ظهرت طبقة أخرى حكمت على الأعمالالأدبية من مقياس الفن و الصناعة،فكانت تقيس الشعر بهذا المقياس،فما أظهر المقياسضعفه ضَعُفَ و لو كان قديا،و ما أظهر المقياس جودته حُكِمَ بجودته و لو كان حديثا.

كان للحزبين أثر على الأدب "الشعر"،إذ نجمعنهما شعراء تحرروا من قيود القصيدة القديمة و خرجوا عن تقاليدها،مثل ما نجده فيقصائد "أبي نواس"،أما المحافظون فقد تخوفوا من الخروج عن قواعد القصيدالعربية القديمة،فينالوا بذلك السَّخَطَ و النقد.

استند النقد في العصر الجاهلي و الأموي على الذوقوحده،فلما جاء العصر العباسي تحول النقد إلى علم له قواعد و أصول.و كان "ابنسلام الجمحي" من أوائل النقاد في العصر العباسي من دعى إلى التقعيد و التأصيل،منخلال كتابه "طبقات الشعراء" الذي قال:{قال قائل لخلف:إذا سمعت أنا الشعرو استحسنته،فما أبالي ما قلت في أنت و أصحابك.قال له الخلف:إذا أخذت أنت درهما فاستحسنته،فقاللك الصّراف،إنه رديء،هل ينفعك استحسانك له؟}.و قال أيضا:"للشعر صناعة و ثقافةيعرفها أهل العلم،كسائر أصناف العلم و الصناعات،منها ما تثقفه اليد،و منها مايثقفه اللسان.و من ذلك اللؤلؤ و الياقوت:لا يعرفان بصفة أو وزن،دون معاينته ممنيبصره...}،محاولا ترتيب الشعراء في طبقات،مركزا على الذوق المثقف الواعي والعالم،و ليس على الذوق العادي،في الحكم على الأعمال الأدبية.

جاء بعده ابن قتيبة "الشعر والشعراء"،"أدب الكاتب"،الذي تميزب:

ـ عدم التفريق في الوزن بين القديم و المحدث

ـ فرّق بينالروح العلمية و الذوق الأدبي،كما نوه إلى أن اشتغال الأديب بالمصطلحاتالفلسفية،لا يفيد في الأدب،بل يضعف ذوقه.

و بعده "ابن المعتز" كتاب "البديع"الذي نبّهَ إلى وجود البديع في الشعر الجاهلي و الإسلامي.ثم ظهر العديد من العلماءمثل :"قدامة بن جعفر" كتاب "نقد الشعر"،"جواهرالألفاظ"،"صناعة الكتابة"،"السكاكي" "مفتاحالعلوم"،الصولي:"أدب الكتاب"،"شرح ديوان أبيتمام"،"الآمدي" "الموازنة"،"أبو الفرجالأصفهاني" "الأغاني"،"أبو الهلال العسكري""الصناعتين"،"عبد القاهر الجرجاني" "دلائل الإعجاز""أسرار البلاغة"،"ابن رشيق القيرواني" "العمدة"...

خاض هؤلاء العلماء في العديد من القضايا النقدية ك :اللفظ و المعنى،الوضوح و الغموض،الفحولة،الجديد و القديم،السرقات،...

و هذا ما سنتطرق له في المحاضرات القادمة بإذن الله

المحاضرة الثالثة: قضية الفظ و المعنى في النقد الأدبي القديم

تمهيد:

تعتبر قضية اللفظ و المعنى من بين القضايا الأكثر جدلافي العصر العباسي،باعتبارها قضية إنسانية. وقف عليها اليونان قبل العرب،و قد غرفالعرب من الحضارة اليونانية و تبحروا في علومها.فشغلت هذه القضية الفلاسفة والبلاغيين و علماء الكلام على حد سواء.

تبقى قضيةاللفظ و المعنى على رأسِ المشاكل أو القضايا التي شغلت النقَّاد العرب؛ وذلك لِمانشِب حولها مِن اختلافٍ لوجهات النظر بين مَن يتعصب للفظ ومحتجُّ له، وبين مَن لايرى سوى المعنى شيئًا يدعو للاهتمام، وبين ثالث على مذهب الوسط، محاولًا التوفيقبين الرأي الأول والرأي الثاني

مفهوم اللفظ و المعنى لغة و اصطلاحا:

جاء في لسان العرب أنَّ {لَفْظُ:اللَّفْظُ :أنترمي بشيء كان في فيك،و الفعل لَفَظَ الشَّيءَ،يقل:لَفَظْتُ الشيءَ من فميأَلْفِظُهُ لَفْظًا:رَمَيْتُهُ}

أما الجرجاني في كتابه "التعريفات"،فيقولأن {اللفظ:ما يتلفظ به الإنسان،أو من في حكمه ـ مُهْمَلاً كان أو مستعملا،و قالفي تعريف المعنى:ما يُقصدُ بشيء}

و ذكر "ابن الفارس" صاحب كتاب "المقاييس":{"اللفظ":اللاّم و الفاء كلمة صحيحة،تدل على طرح الشيء،و غالب ذلك يكونمن الفم،تقول:لَفَظَ بالكلام يلفظ لفظا،و لفظتُ الشيء من فمي...،و هو شيء ملفوظ ولفيظ}

يمكن القول أنقضية اللفظ و المعنى ،تلك المشكلة النقدية الأكثر شيوعا في الساحة النقدية والعربية،التي حازت من الإهتمام الشيء الكثير،سواء من طرف النقاد أو البلاغيين،أوحتى من علماء الكلام من الفرق الكلامية،إذ تعود في أول ظهورها إلى الفرق:الأشاعرة والمعتزلة،...وقضية التمييز بين القرآن الموجود بين أيدينا و الكلام النفسي، مع فتنة خلق القران،و ما ثار حولها من جدل و أسئلة مثل:هلالقرآن مخلوق لم يكن ثم كان،أي محدث؟أم أنه كلام الله قديم أزلي و ليس بمخلوق؟ عندالأشاعرة خاصة.

ومن جهة النقاد والبلاغيين، فقد تضارَبت الآراء وتقاطعت،وإن لم يكن الخلاف بينهم بالحدَّة التي كانت مع الفرق الكلامية؛ حيث نجد "منهممَن يردُّ أهمَ مقوِّمات العمل الأدبي، وأقوى دعائِم نجاحه إلى المعنى، مقللًا منشأن اللفظ في ذلك، ومنهم مَن يردها إلى اللفظ، ومنهم من يسوي بينهما"،وعلى مدار انتقاء اللفظ اللائق الذي يكسب المعنى بهاءً ورونقًا، والذي يكون أبلغفي تأدية المعنى المراد من غيره، دارت آراؤهم في هذا المجالاللفظ والمعنى فيالفكر الغربي القديم: (أفلاطون – أرسطو

يتفق معظم الباحثين أن البداية الأولى لقضية اللفظوالمعنى كانت مع الجاحظ (ت255)، "الذي - بالإضافة إلى رأيه فيأقسام البيان عامة، وملاحظاته المتعلقة بالظاهرة اللُّغوية... - تمتد تصوراتُهالأسلوبية ومقاييسُه البلاغية في رسوخ في نظريته في الكلام...، (التي تقدر أنالكلام هو المظهر العملي لوجود اللغة المجرد) ؛ أي إن الكلام ما هو إلا تجلٍّومظهر عملي تطبيقي للغة المجردة القائمة في نفس الإنسان"

ومن جهة أخرى، فإن الجاحظ على عكس ما ذهب إليهعددٌ من الدارسين، من أنه من الذين ينتصرون للألفاظ على حساب المعاني، مستندين فيذلك على قولته الشهيرة: (المعاني مطروحة في الطريق)؛ حيث إن الراجح في الأمر هو أنالجاحظَ كان مِن أصحاب المشاكلة والمطابقة بين اللفظ والمعنى؛ وحجَّتُنا في ذلك،هي أن الجاحظ جعل اللفظ والمعنى في مقابل الجسد والروح؛ إذ إن "الأسماءفي معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح، اللفظ للمعنى بدنٌ، والمعنى للفظ روح"

ولعل الأمرَ يزداد وضوحًا مع ما ذكره هو نفسُه في البيانوالتبيين: "مَنْ أرادَ معنًى كريمًا فليلتمسْ له لفظًا كريمًا، فإنحقَّ المعنى الشريف اللفظُ الشريف"

وبناءً على ما سبق، فإن الجاحظ لم يتنصِر للفظ على حسابالمعنى أو للمعنى على حساب اللفظ، بل ذهب إلى ما سماه بالمشاكلة والمطابقة بينهما

وقد تقاطع معه في ذلك ابن قتيبة (ت276)، "الذيأدرَك لحمة المعنى واللفظ في إطار الصياغة الواحدة"، وإن كان يميز بينأربعةِ أقسامٍ من الشعر - انطلاقًا من ثنائية اللفظ والمعنى – هي:

1 ضربٌ منه حسُن لفظه وجاد معناه

2 ضربٌمنه حسن لفظه وخلا، فإذا أنت فتَّشته لم تجد فائدةً في المعنى

3 ضربٌ منهجاد معناه وقَصُرتْ ألفاظُهُ عنه.

4 ضربٌ منهتأخَّر معناه وتأخر لفظه.

والأمر لا يختلف كثيرًا مع قدامةَ بنِ جعفر(ت337)، الذي ذهب إلى أن العملَ الأدبي يجب أن يتميَّز بإتلافِ عناصرهِ النصيةِ؛حيث يقول فيما سماه بالمساواة: "وهو أن يكون اللفظُ مساويًا للمعنى، حتىلا يزيد عليه ولا ينقص عنه، وهذه هي البلاغة التي وصف بها بعض الكتاب رجلًا، فقال:كانت ألفاظُه قوالبَ لمعانِيهِ؛ أي هي مساويةٌ لها لا يفضُلُ أحدُهُما علىالآخر..."

وقد احتل اللفظُ والمعنى عند نقَّاد عمودِ الشعر مكانةًرئيسة؛ حيث نجدهما على رأس أبواب عمود الشعر السبعة عند المرزوقي (ت421)،الذي كان آخرَ حلقةٍ في تطورِ هذه القواعد، ومعه استوت على سوقِها، حيثُ ذكر أن شروط تطور القصيدة هي :

شرفالمعنى وصحته.

جزالةاللفظ واستقامته.

الإصابةفي الوصفِ.

المقاربةفي التشبِيه.

التحامأجزاءِ النظم والتئامها على تخيرٍ من لذيذِ الوزن

مناسبةالمستعار منه للمستعار له.

مشاكلةاللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا تكون منافرة بينهما.

وقد ذكر عيارَ كلِّ واحدٍ منهما - أي عيار اللفظ وعيارالمعنى - فقال: "فعيارُ المعنى أن يُعرَضَ على العقل الصحيح، والفهمالثاقب، فإذا انعطف عليه جَنبتا القبولِ والاصطفاء، مُستأنِسًا بِقَرَائنه، خرجوافيًا، وإلا انتقض بمقدار شَوْبِهِ و وحشته"

وقال في اللفظ: "وعيار اللفظ الطبعُ والرِّوايةُوالاستعمالُ، فما سلِم ممَّا يُهجنهُ عند العرضِ عليها، فهو المختارُالمستقيم..."

أما عبدالقاهرالجرجاني، فقد كان لتأخره زمنيًّا عن كل المذاهب الأثرُ الإيجابي في اطلاعهعلى مختلف الآراء النقدية التي قيلت حول هذه القضية؛ حيث "اجتمعت لديهآراؤهم، وأفاد مِن خبرتِهم، ولكنه تجاوزهم إلى رأي خاص، وكانت له في هذا المجالأصالة وتعمق، وكان صاحب مدرسةٍ في النقد، أدرك فيها ما لم يُدرِك النقادُ..."

ولعل أكبر ما اشتهر به عبدالقاهر الجرجاني فيالنقد الأدبي هو عَلاقة اللفظ والمعنى بالإعجاز القرآني، التي اصطُلِح عليها فيمابعد (بنظرية النظم)، هذه النظرية التي كانت بمثابة الخلاصة التي أفرزَتْها قضيةاللفظ والمعنى، خصوصًا في المشرق العربي، حيث "صاغ فلسفَتَه البلاغية التيجعل محورَها نظريتَه في النظم التي ربط فيها بين اللفظ والمعنى وبين دلالة الألفاظالأسلوبية ودلالاتها الثانوية، وجعل النظمَ وحدَهُ هو مظهر البلاغة ومثار القيمةِالجماليةِ في النصِ الأدبي".

و يمكن أن نلخص ذلك فيما يلي:

1 ـ يرى عبد القاهر الجرجاني أن اللفظ رمز لمعناه،و هوفي ذلك يلتقي مع كل النقاد العالميين القدامى و المحدثين،و مع المدرسة الرمزية فياللغة.فالكلمة رمز للفكرة أو التجربة أو العاطفة أو المعنى،و قيمتها فيما ترمزإليه،و ليست في البلاغة وحدها.

2 ـ العلاقات الأسلوبية بين الألفاظ هي موطن البلاغة فيرأي الجرجاني،و هي موطن البلاغة،و هي ما عبر عنه بالنظم و ما عبر عنه النقادبالشكل أو الصورة،فمن مجموعة العلاقات بين الألفاظ في النص الأدبي تتكون الصورة وفيها تظهر البلاغة أو الجمالية.

3 ـ لم يغفل الجرجاني عن أهمية المعاني الثانوية ودلالاتها الجمالية في النص الأدبي،سواء كانت هذه المعاني ثانيوية لزومية،أو منمستتبعات التراكيب،أو أثراً لرموز صوتية،و إيحاءات نفسية،فهي التي تعطي الأسلوبدلالاته البلاغية و تمنحه قيمة جمالية.

4 ـ ربط الجرجاني بين اللفظ و المعنى و بين دلالاتالألفاظ الأسلوبية و دلالاتها الثانوية،و جعل النظم وحده مظهرا للبلاغة و مثاراللقيمة الجمالية في النص الأدبي،إذ تقوم فكرة النظم على الألفاظ و لا تتفاضل منحيث هي ألفاظ مجردة،و لا من حيث هي كلمات مفردة،و لكنها تتفاضل في ملاءمة معانيهاللمعاني التي تليها في السياق الذي وردت فيه،و أن اللفظة قد تروق و تحسن في موضع،وتثقل و توحش في موضع آخر،و إن التأليف و النظم هو وحده الذي يحدد ملاءمة الكلمة وعدم ملاءمتهابالنسبة لما قبلها و ما بعدها.

و بهذا تكون قضية اللفظ و المعنى قد نضجت على يدالجرجاني.

و عليه نستنتجأن جُل النقاد ذهبوا إلى الموافقة أو الإتحاد و المشاكلة بين اللفظ و المعنى،فيحين كان أنصار اللفظ في أكثرهم من علماء اللغة،لأن الألفاظ هي أساس كل القواعداللغوية من نحو و صرف و بلاغة...

المحاضرة الرابعة: قضية الغموض و الوضوح في النقدالأدبي القديم:

تمهيد:

لعل أول إلماعة إلى الغموض،أو عدم الوضوح فيتراثنا النقدي،نجدها في العصر الجاهلي عندما أنشد "النابغة الذبياني"،النعمانَابن المنذر؛قوله في مديحه:

تراك الأرضُ إذاَّ متخِفاًّ و تحيا إنْ حييت َ بها ثقيلا

فقال له:هذا بيت إن لم تتبعه بما يوضح معناهكان إلى الهجاء أقرب.و يُروى أن النابغة أعانه "كعب ابن زهير" على أنيقول:

و ذالك بأن حللت العِز منها فتمنع جانبيها أن يزولا

فطابت نفس النعمان.

ثم برزت قضية "الوضوح و الغموض" بشكل عميق في العصر العباسي معظهور المحدثين و مذهيهم في الصنعة و البديع،و أُشير إلى " أبي تمام" علىوجه الخصوص بأنه شاعر يُؤثِر ُ الغموض،إذ يُعَقِّدُ المعنى،و يبالغ و يبعد فيالصور،و يستعمل الغريب من الألفاظ. قد نقل التاريخ الحوار النقدي الطريف الذي داربين "أبي تمام" و ناقديه :"أبي سعيد الضرير" و "أبيالعميثل"،عندما استمعا إلى شعره،فقالا له:{لمِ لا تقول ما يُفهم؟}فكانتإجابته التي استُظرِفتْ:{لِمَ لا تفهمان ما يُقال؟}

ثم اتُّهم شعراء آخرون بعد ذلك بالغموضك"أبي الطيب المتنبي"و "أبي العلاء المعري"و غيرهما.

و على وجود نقاد أشاروا إلى الغموض فيالشعر،و عَدُّووهُ ميزة،إلاّ أن هذا الغموض ـ كما سنوضح ـ كان له مفهوم خاص يختلفعن مفهومه في الشعر الحديث،كما أنَّ الغموض ـ ظل ـ بشكل عام عيبا يُؤاخذ به الكاتب؛شاعرا كان أمناثرا.

ظلّ النقد العربي،بل الثقافة العربيةالإسلامية عامة،تميل إلى الوضوح،تحث عليه،و تَعيب الغموض و التعقيد بأشكالهاكافة،و تستهجن كل ما يمكن أن يكون سببا فيهما:كوحشي الألفاظ،غرابةالمفردات،المفاضلة في التركيب،التقديم و التأخير من غير سبب بلاغي،و البعد فيالإستعارة،عدم المقاربة في التشبيه و إدخال الفلسفة و المنطق،و ما شاكل ذلك.

مفهوم الغموض لغة و اصطلاحا:

الغموض في اللغة مصدر من غمُضَ ـ بفتحالميم ـ و كل مالم يصل إليك واضحا فهوغامض،و لذلك فالغامض من الكلام خلاف الواضح،كما يقال للرجل الجيد الرأي:قد أغمضالنظر.و المسألة الغامضة:المسألة التي فيها دقة و نظر،و معنى غامض و لطيف.

كما يحمل مصطلح الغموض في المعاجم الإنجليزيةالمعاصرة ،معنى اللغة المجازية

"figuratif langage".

أو تعدد احتمالات المعنى،تلك التي تمثلالمستوي الفني الجمالي،المتصل بالدلالات و الرموز،المرتبطة لالأعمال الإبداعيةكالشعر مثلا.

فالغموض الذي يعنيه البحث هنا هو{ليس ذلك الذي يصعب فتح أقفاله و تخطي أسواره ليصل إلينا،بل هوالسمة الطبيعية الناجمة عن آلية عمل القصيدة العربية و عناصرها المكونة من جهة،وعن جوهر الشعر الذي هو انبثاق متداخل من تظافر قوات عدة من الشعور و الروح و العقلمستترةوراء اللحظة الشعرية}.

و الغموض المعني هنا هو ما شدك إلى حوارمعه،و استفز مشاعرك و عقلك من خلال غموض عباراته و صوره و موسيقاه،إذ يتجسد الغموضفي ثراء النص الإبداعي،و تعدد دلالاته و قراءاته،مما يخلق نوعا من اللذة الحسية والذهنية تجاه خبايا النص و اللا متوقع أو اللا منتظر في صوره و جمالياته الفنية.وفي هذه الحال تخلق نوعا من التواصل و الألفة، بين النص و القارئ الذي يتلقى النص،ويشعر أنه بحاجة إليه مهما كان غامضا ليطفئ من خلاله عطشه و طموحه الذهني.و عليهنخلص إلى وجود دلالاتان للغموض:

دلالة جمالية:

يكون الغموض بموجبه فنا

دلالة لغوية:

يكون بموجبه الغموض إيهاما و تعمية

الغموض في النقد:

نال مصطلح "الغموض" من القلق والإضطراب أكثر من أي مصطلح نقدي آخر، لإرتباطه بجوهر العمل الإبداعي، من حيثالمبدع و النص و المتلقي.و يعود هذا القلق و الإضطراب في تحديد مصطلح الغموض، إلىتعدد مستوى درجاته،و إلى الاختلاف في تحديد مفهومه،و معرفة غايته و أهميته،كما تعودإشكالية تحديد مصطلح الغموض،إلى مرادفاته اللغويةالكثيرة؛مثل:التعمية،الإبهام،الإستغلاق،الإلغاز و غيرها،من التسميات التي ُيضَلَّلبعضها المتلقي،في تفسير أهمية المصطلح و وظيفته.

لذلك،فإن حديث العلماء العرب القدماء عن"الغموض حديث مفرق حديث متناثر في دراسات المفسرين و الأصوليين و اللغويين والنحاة البلاغيين.كما كانت عناية القدماء بالتطبيق في دراساتهم لهذه الظاهرة،أكثرمن عنايتهم بالتنظير،كما كان شأنهم دائما،و لكن الذي لا شك فيه أن ظاهرة الغموضبما لها من صلة ببنية الكلام قد لفتت أنظار القدماء منذ وقت مبكر.و قد تعددت عندالعلماء العرب القدماء الأسباب التي عزوا إليها غموض المعنى،فكانت تعود إماَّ إلىالبنية الصوتية للكلمة و الكلام و تعقد التركيب النحوي،أو بعد الإستعارة و التشبيهو استغلاقهما،أو مخالفة قواعد الشعر العربي.

فقد استخدم "سيبويه" ت 180 هـمصطلح اللبس للدلالة على الغموض الناشئ عن وجود لفظ يحتمل أكثر من معنى أو دلالةأو تركيب سؤدي إلى الغموض.يقول سيبويه:{و ينبغي لك أن تسأل عن خبر من هو معروفعنده [يقصد السامع] كما حدثته عن خبر من هو معروف عندك بالمعروف،و هو المبدوء}.ويقصد سيبويه هنا بأن الأصل في المبتدأء أن يكون معرفة لكي يصح السؤال عنه،و إذا لميكن كذلك وقع الغموضفي الكلام و ترتب عليه عدم فهم السامع.

أما "الآمدي" ت 370 هـ فمن أوائلالنقاد العرب القدماء الذين استخدموا مصطلح الغموض و الإستغلاق في المعاني و الصورمقابل وصفه لشعر البحتري الذي يتسم بوضوح المعنى و قربه.يقول الآمدي:"فإن كنت...ممن يفضل سهل الكلام و قريبه،و يؤثر صحة السبكو حسن العبارة و حلو اللفظ و كثرة الماء و الرونق،فالبحتري أشعر عندك ضرورة.و إنكنت تميل إلى الصنعة و المعاني الغامضة التي تستخرج بالغموض و الفكرة و لا تلويغير ذلك فأبو تمام عندك أشعر لا محالة".و يقول كذلك بهذا الخصوص ناسباأبا تمام إلى النزعة الفلسفية و التعقيد و الغموض:"وذلك كمن فضل البحتري،و نسبه إلى حلاوة اللفظ،و حسن التخلص ووضع الكلام مواضعه،وصحةالعبارة و قرب المآتي،و انكشاف المعاني،و هم الكتاب و الأعراب و الشعراءالمطبوعون و أهل البلاغة،مثل من فضل أبا تمام،و نسبه إلى غموض المعاني و دقتها،وكثرة ما يورد،مما يحتاج إلى استنباط و شرح و استخراج،و هؤلاء أهل المعاني والشعراء و أصحاب الصنعة و من يميل إلى استنباط و شرح و استخراج،و هؤلاء أهلالمعاني و الشعراء و أصحاب الصنعة و من يميل إلى التدقيق و فلسفي الكلام"

يكشف هذا الفهم للآمدي عن إدراكه لأهميةالغموض و وظيفته في الشعر،و ذلك على الرغم من تفضيله للبحتري مقابل رفضه لشعر أبيتمام.

و قد حدد "أبو إسحاق الصابي" ت 384هـ الفرق بين النثر و الشعر،مبينا أن النثر مجاله الوضوح في المعاني و الألفاظ،أماالشعر فمجاله الغموض،حيث يخلق الغموض في الشعر مفاجآت من خلال تعدد المعاني،والإحتمالات المختلفة في التفسير.و بهذا التعدد تتشكل اللذة الحسية و العقلية عندقارئ الشعر و متلقيه.يقول أبو إسحاق الصابي:"إن طريقالإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه،لأن الترسل هو ما وضحمعناه.و أعطاك سماعه في أول وهلة، ما تضمنه ألفاظه،و أفخر الشعر ما غمض،فلم يعطكغرضه،إلاّ بعد مماطلة منه"

أما "الجرجاني" فقد استطاع إبرازأهمية الغموض في بنية النص الإبداعي،و أن ضروب الغموض تشتمل على الصياغة والتركيب،فضلا عن ضروب البيان و المعاني و البديع،إضافة إلى ذلك فقد ربط عبد القاهرالجرجاني الغموض باللذة العقلية و الحسية عند القارئ،و لذلك فالغموض بأشكالهالمختلفة، من تعمية و تعقيد و غرابة، يدفع القارئ إلى دائرة التأويل و إدراكالفكرة التي تضَمَّنَها النص الإبداعي،و هذا ما يثير لذة نفسية و عقلية عندالقارئ.

فالجرجاني قد أدرك أهمية الغموض بأنماطهالمختلفة في تشكيل بنية النص الإبداعي،و منحه الخصوصية الفنية الجمالية،حيث النصالإبداعي البعيد عن الغموض الفني نصا سطحيا لا يرقى إلى العمل الإبداعي الحقييالذي يجعل القارئ جزءا من العملية الإبداعية و مشاركا فيها من خلال وقوعه في دائرةالتأويل و التفسير.

بهذا المفهوم يشكل الغموض ظاهرة فنية مرتبطةبالفن الإنساني،و بالفنان المبدع،مما يجعل المتلقي لهذا العمل الفني بحاجة حسية وفكرية ماسة من أجل فك رموز العمل الفني،و تفسيره دلالاته،و تحديد قراءاته،لكي يقفالمتلقي على طبيعة العمل الفني و جوهره،و هذه الحال تشكل قمة اللذة الحسية والذهنية عند المتلقي،كما أنها تجسد غاية المبدع و هدفه،و هذا السر النص الإبداعي،وجوهر وجوده.

المحاضرة الخامسة: قضية المنظوم و المنثور في النقدالأدبي القديم

تمهيد:

أطلق القدماء على النثر مصطلحات كثيرةأبرزها:المنثور،الكلام،و الكتابة.و هي مصطلحات قد تبدو متباينة من حيث دلالاتها.

إن المنثور يباين المنظوم و يخالفه،لأن كلواحد منهما يشكل جنسا أو فنا مستقلا بذاته،يقول "ابن خلدون" :{و إنماالمقصود منه[أي من علم الأدب] عند أهل اللسان ثمرته و هي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب و مناحيهم}

إن المنظومو المنثور فنان تسمو قيمتهما،و يعلو شأنهما حسب "ابن خلدون"بشرط"الإجادة"؛و هي ثمرة "علم الأدب"،و تبعا لذلك فالشاعر والكاتب لا يجيدان إلاّ إذا كانا ملمين بذلك العلم.

أما ما جاء في كتاب "سر الفصاحة""لابن سنان الخفاجي" في التمييز بين الكلام المنظوم و المنثور:ما يقالفي تفضيل أحدهما عن الآخر،أماّ حد النثر{فهو حد الكلام الذي ذكرناه في هذاالكتاب،و أماّ حد الشعر فهو كلام موزون مقفى يدل على معنى.و قلنا:كلام لِيدّل علىجنسه،و قلنا موزون لنفرق بينه و بين الكلام المنثور الذي ليس بموزون و قلنا:مقفىلنفرق بينه و بين المؤلف الموزون الذي لا قوافي له.و قلنا:يدل على معنى لنحترز منالمؤَلَّف الذي لا يدل على معنى}.

يُقارن "ابن وهب"بين المنظوم والمنثور،فيقول:{اعلم أنّ سائر العبارة في لسان العرب إمّا يكون منظوما أو منثورا،والمنظوم هو الشعر،و المنثور هو الكلام}.و معنى هذا أن العبارة عند العرب إذانُظِمَتْ كانت شعرا،و إذا نُثِرَتْ سُمِّيَتْ كلاماً.

إلاّ أنَّ الكلام يشمل عند بعض النقادالقدماء الشعر و النثر معا.ففي كتاب "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" لـ "ضياء الدين أبوالفتح نصر الله الموصلي" نجد التنبيه التالي :{اعلم أن صناعة تأليف الكلام منالمنظوم و المنثور تفتقر إلى آلات كثيرة}

إذا كان الكلام ينقسم إلى منظوم و منثور،فإنالجامع بينهما هو كونهما صناعة تتطلب الإلمام بعلوم و معارف كثيرة يسميها القدامىبـ"الآلآت".هذا دون أن ننسى أن "الكلام على الكلام صعب".

كما قال "أبو حيا التوحيدي"،ومردُّ ذلك أنَّ {الكلام على الكلام فإنه يدور على نفسه،و يلتبس بعضُه بِبَعْضِهِ}.

و من المعلوم أنَّ كثيرا من القدامىأَوْلَوْا الكلام عناية خاصة،تعريفا و تقييما،يقول "أبو الهلالالعسكري":{الكلام أيّدَكَ الله ُ،يحسن بسلاسته،و سهولته،و صناعته،و تخيرلفظه،و إصابة معناه،و جودة مطالعه،و لِينِ مقاطعه،و استواء تقاسيمه،و تعادل أطرافه...}

إنَّ الكلام،بهذا المفهوم،يمكن أن ينطبق علىالشعر،كما يمكن أن ينسحب على النثر،غير أنَّ جودته لا تكتمل إلاّ إذا اجتمعت بينجمال اللفظ و المعنى و الأسلوب و الإيقاع و البناء.

و في موضع آخر،يعتبره "أبو هلالالعسكري"،جنسا عاما تندرج تحته مجموعة من الأجناس الفرعية،يقول في هذاالإطار:{أجناس الكلام المنظوم[ثلاثة] الرسائل،و الخطب،و الشعر.و جميعها يحتاج إلىحسن التأليف و جودة التركيب}.

و الملاحظ أن كلمة"المنظوم"،الوارد في هذه المقولة،تثير بعض الإرتباك و الغموض إذا ماتمَّ قصر دلالتها على الشعر وحده،غير أن المقصود بخلاف ذلك،إذ تدل على التأليف والتركيب الجيدين بين أجزاء القول،سواء أتعلق الأمر بالنثر أم بالشعر.

و ممن يؤكد الكلام يشمل فني الشعر و النثر"ابن خلدون" يقول:{اعلم أن لسانالعرب و كلامهم على فنَّينِ في الشعر المنظوم و هي الكلام الموزون المقفى...و في النثرفهو الكلام غير الموزون و كل واحد من الفنين يشتمل على فنون و مذاهب في الكلام}.

صنَّف ابن خلدون كلام العرب،مستندا إلى معيارالوزن،و هو في ذلك يؤيد ما ذهب إليه صاحب كتاب "المثل السائر" من:{أنَّجماعةمن مدَّعي علم البيان ذهبوا إلى أنَّ الكلام ينقسم قسمين فمنه ما يحسن فيه الإيجازكالأشعار و المكاتبات و منه ما يحسن فيه التطويل كالخطب و التقليدات}.فالكلام يمكنأن يكون شعرا أو نثرا،و يشترك القسمان في بعض الخصائص دون أخرى.

المفاضلة بين الشعر و النثر:

إنّ الحديث عن النثر في الأدب العربي،يَرِدُعند الكثير من الدارسين في إطار مقارنته بِصِنْوِهِ المتمثل في الشعر.و هي مقارنةتجعل منه غالبا،جنسا أدبيا أدنى مرتبة من الشعر،أو أضعف تأثيراً،أو أقلُّ حضورا،وهذا ما تُفصِحُ عنه أقوال بعض القدماء:قال "السلامي":{من فضائل النظم أنصار [لنا] صناعة برأسها،و تكلم الناس في قوافيها،و توسعوا في تصاريفها وأعاريضها،و تصرفوا في بحورها...و ما هكذا النثر،فإنه قَصُرَ عن هذه الذروةالشامخة،و القبلة العالية...و قال" ابن بناته":من فضل النظم أن الشواهدلا توجد إلاّ فيه،و الحجج لا تؤخذ إلاّ منه،أعنب [أن ] العلماء و الحكماء واللغويين يقولون:قال الشاعر:"و هذا كثير في الشعر"و "الشعر قد أتىبه"،فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجة،و الشعر هو [الحجة]}.

إن الشعر يُفضّلُ على النثر،لكونه أصبح صناعةلها قواعدها المتعارف عليها.كما أنه مصدر للإستشهاد و الإحتجاج.فمنه يستقي العلماءو الحكماء و اللغويون حججهم و شواهدهم.و في المقابل نجد مواقف أخرى تنتصر للنثرلكونه الأصل الذي يشرف على فرعه و هو الشعر،على الرغم من أن أصحابها يعترفون بأنلكل منهما محاسن و مساوئ،يقول "أبو حيان التوحيدي":{و سمعت "أباعابد الكرخي صالح بن علي" يقول:النثر أصل الكلام،و النظم فرعه،و الأصل أشرفمن الفرع،و الفرع أنقص من الأصل؛لكن لكل واحد منها زائنات و شائنات}

يمكن القول إذن،أن التنازع بين الشعر و النثرمرَّ بمرحلتين هما:"المرحلة الأولى،اكتسبت طابع صراع وجودي بين الشعر والنثر،حيث دارت أهم المناقشات حول الأسبقية في الوجود [الأصل،الفرع] أو أهميةالمصدر[العقل،القلب]".و المرحلة الثانية "تميزت ببروز الوعي النقديللجمع بين الشعر و النثر،في ظل مفهوم جديد هو ما اصطلح عليه لدى العسكريبالكتابة".

النظر إلى الشعر و النثر،باعتبارهما ثنائيةيحكمها التضاد أو التنازع،مسألة ما تزال تُطرح بشكل مغلوط،إذ من المعلوم أنّ "قضية الشعر و النثر من زوايامتعددة،كالنظر للنثر باعتباره منافسا للشعر".

من هنا كان الموقف السليم،ـ في نظرناـ يتمثلفي معالجة ضية الشعر و النثر في إطارها الطبيعي و هو مسألة الأجناس الأدبية من حيثظهور الأجناسو تطورها و تداخلها ز تفاعلها و اندثارها،خاصة و "أن الأنواعتعيش و تنمو...[و] في بعض الأحيان،يتفكك النوع الأدبي".

إنَّ الأجناس الفنون الأدبية تنبثق،في سياقتاريخي محدد،من تراكم التجارب الإنسانية و الفنية و تفاعل الأشخاص مع محيطهملتستجيب نفسية و اجتماعية و فنية.و لهذا كانت "مصداقية النوع تستمد منوظيفته،التي تتجاوز في بعض الأحيان حدود الأدبي إلى ما هو تاريخي أواجتماعي".

يمكن القول أنّ النثر باعتباره إضافة فنيةنوعية لم تتبلور لتنافس الشعر،و إنما الأدبي،و لتنفتح أفاق أخرى للتعبير،و اتخاذالمواقف،و النظر إلى الأمور من زوايا أخرى.

المحاضرة السادسة: السرقات الأدبية في النقد القديم

تمهد:

يعد العمل الأدبي من أهم المنجزات،التييبتكرها الإنسان و تخلده بعد وفاته،فهو يتوافر على العديد من العناصر التي يصبفيها الكاتب جزءا من روحه و حسه و شخصيته،و كثيرا ما شكلت الأعمال الأدبية علىاختلاف أجناسها لإلهام القراء،إذ تم تحويلبعضها إلى مسرحيات:"قيس و ليلى"،"عنتر و عبلة" من خلالالقصائد فقط.و إلى أعمال سينمائية و تلفزيونية،تجسد قوة التفاصيل التي حدثت في هذهالأعمال،المكتوبة على نحو مرئي.و عليه يجب أن تنسب هذه الأعمال الإبداعية إلىأصحابها،كي لا يضيع مجهودهم،و كي لا يُحال النص إلى غير أهله،فيما يُعرف بالسرقاتالأدبية.

مفهوم السرقات الأدبية لغة و اصطلاحا:

عرَّف "ابن منظور" السرقة الأدبيةفي كتابه "لسان العرب" قائلا:{سرق الشء يسرقه سرَقاً و سَرِقاً،و السارق عند العرب، ما جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له،فإن أخذمنظاهر فهو مختلس و مستلب و منتهب و محترس}

و هيكما جاء في "معجم الوسيط":{الأخذ من كلام الغير،و هو أخذ بعض المعنى أوبعض اللفظ سواءا أكان أخذ اللفظ بأسره و المعنى بأسره}

فهو إن أخذ فكرة النص الأدبي،أو أخذ النص بحدذاته،و نسبه إلى كاتب آخر،و قد تتم هذه السرقات على مستوى مؤلف النص الأدبي أو علىمستوى الجهة التي قامت بنشر نصوص المؤلف.

أما "ابن رشيق القيرواني"ت 463 هـ،فيُعرف السرقة الأدبية كما جاء في كتابه"العمدة" قائلا:{السرقات الشعرية هي أن يعمد شاعر لاحق فيأخذ منشعر شاعر سابق بيتا شعريا،أو شطر بيت،أو صورة فنية أو حتى معنى ما،و يكون فيالبديع المخترع الذي يختص به الشاعر لا في المعاني المشتركة...و اتِّكال الشاعرعلى السِّرق بلادة و عجز،و تركه معنى سبق إليه جهل و المختار أوسط الحالات}

خلافا "للجاحظ" الذي لم يهتم بالسرقات،ربمالأنه كان يرى أن الأفضلية للشكل الشعري،و أنَّ المعاني قدر مشترك بين الناس:{والمعاني المطروحة في الطريق،يعرفها العجمي و العربي،و البدوي و القروي،و إنماالشأن في إقامة الوزن و تمييز اللفظ،و سهولته،و سهولة المخرج،و في صحة الطبع،وجودة السبك}

لكن "الجرجاني" ت:392 هـ يخالف الجاحظ في الرأي،إذ يقولفيكتابه:"الوساطة بين المتنبي و خصومه":{السرق ـ أيدك الله ـ داء قديم،وعيب عتيق،و مازال الشاعر يستعين بخاطر الآخر،و يستمد من قريحته،و يعتمد على معناهو لفظه}

و قد تضاربت الآراء و احتدم النقاش بين النقادالمفكرين،و انقسم النقاد إلى فريقين،فريق:استهجن و أعاب السرقة الأدبية،و اعتبرهاعيبا و جرما،و هناك من استحبها و اعتبرها لازمة من لوازم الحياة الأدبية،و ضرورةمن ضرورات تطورها،إذ يضيف "ابن رشيق القيرواني" توفي سنة 463 هـقائلا:{لا يمكن أن يقرر تاريخ بداية السرقات الأدبية،و إن كانت هذه الظاهرة قديمةقدم الشعر،فقد وُجدت عند اليونانيين،و إن كان المصطلح مأخوذ من سرقة المحسوياتإلاّ أنه لما ظهر أن هناك ما يوازيه،بل و ربما يزيد عليه قُبحا،و ذلك بتأثيرهالظاهر على المجتمع الإنساني،و سلب إبداع المبدعين،فإنَّ ما تشِّعُ به أفكارالمبدعين حُرمة تتطلب حِفظاً،كما أن للأموال،و لا يكون هذا إلا عن طريق تتبع هذهالسرقات و إظهار ما خفي منها،و أماّ ما كان واضحا جليا فإنه أظهر من أن يُبَيَّن.والسرقة باب متسع جدا،لا يقدر أحد من الشعراء أن يدَّعي السلامة منه.}

أما "ابن أثير" توفي سنة 637هـ،فيقرر في كتابه " المثل السائر"،أنَّ الأصل المعتمد عليه في بابالسرقات هو "التورية"و "الإختفاء"،و يعارض من يرى بأن للمعانيالمبتكرة سُبِق إليها،و لم يبق معنى مبتكر،و {الصحيح أن باب الإبتداع للمعانيمفتوح إلى يوم القيامة و من الذي يحجز على الخواطر و هي قاذفة بما لا نهاية له؟}.وهويشترك في أن المبتدع من يسبق في الفكرة لأول مرة،كما أنّ هناك معانيمشتركة،ظاهرة تتوارد الخواطر عليها من غير كلفة و تستوي على إيرادها،و مثل ذلك لايطلق على الآخر فيه إسم السرقة من الأول،و إنما يطلق إسم السرقة في معنى مخصوص و تكون الحكاية فيها مشهورة.

و يرى الباحث "محمد مندور" فيكتابه "النقد المنهجي عند العرب"،أنّ بعض تلك الدراسات لعبت فيها الأهواء،فيحين تناولت كتب مُنصفة ك "الواسطة" و "اليتيمة" المشكلةنفسها.

في حين يرى "عبد العزيز عتيق" توفيسنة 1396 هـ في كتابه "في النقد الأدبي"،أن لفظ{السرقة في الأدب لا يقفعند حد الإعتداء على أدب الآخرين و الأخذ منه،و إنما تتجاوز السرقة ذلك إلى أمورأخرى،كالتضمين،و الإقتباس،و المحاكاة،و التحرير،و عكس المعنى،و ما إلى ذلك}

قد شاع إستعمال مصطلح السَّرِقات الأدبية فيالشعر،نظرا لمكانة هذا الفن في الحياة الأدبية عند العرب،و يقول الباحث "أحمدالشايب"،في كتابه"أصول النقد الأدبي":{أنّ السرقات الأدبية مسألةطبيعية قديمة في تاريخ الأدب العربي،و في الشعر منه بوجه خاص،وُجِدت بين شعراءالجاهلية و فطن إليها النقاد و الشعراء جميعا،لما لحظوا مظاهرها بين امرئ القيس وطرفة العبد ،و بين الأعشى و النابغة الذبياني،و بين أوس بن حجر و زهير بن أبسسلمى}

يؤكد" الآمدي" في كتابه"الموازنة" أن السّرق لا يوجد في المعاني المشتركة،و إنما في المعانيالمخترعة،الخاصة،أما الإشتراك في المعاني بين شاعرين متقاربين فأمر طبيعي {و غيرمنكر لشاعرين متناسبين من أهل بلد متقاربين أن يتفقا في كثير من المعاني،لاسيما ماتقدم الناس فيه،و تردّد في الأشعار ذكره و جرى في الطباع و الإعتياد من الشاعر وغير الشاعر استعماله}

و قد أشار الآمدي في كتابه إلى النماذج التيأخرجها من سرقات أبي تمام،و التي وصلت إلى حوالي 120 بيتاً،و ما أخرجه من سرقاتالبحتري و التي وصلت إلى حوالي 92 بيتا،فمن الأمثلة على ذلك قول أبي تمام:

السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجدو اللعب

فقال الآمدي بأن البيت أخذه من قول"الكُميت" الأكبر في قوله:

لا تُكثروا فيه اللُّجاج فإنه مَحَا السيف ما قال ابن دارة أجمعا

إنّ المطلع على القصيدة و أسلوبها و ظروفهاالحقيقية لن يذهب إلى ما ذهب إليه الآمدي ـ رحمه الله ـ فالبيت قاله أبو تمامبمناسبة أمر المنجمين للمعتصم بعدم القدوم على فتح عمورية،لأن فتحها يرتبط بموسمالعنب و التين في تقديراتهم،ففحتها المعتصم في غير ذلك التاريخ،فكذّب فتحها بالسيفتخمين المنجمين في كتبهم.بالإضافة إلى ذلك،يلاحظ إختلاف الغرض في البيتين فعن أبيتمام المدح،و عند الكُميت الفخر بالعقل،و هو ما لا ينسجم مع ما قاله المتنبي

و في المثال الثاني:

قول البحتري و قد نسبها إليه أبو ضياء:

ما لِشيء بشاشةُ بعد شيء كتلاق ٍ مُواشكٍ بعدبَيْنِ

و قول أبو تمام:

و ليست فرحة الأوبات إلا ّ لموقوف على ترح الوداع

الملاحظ اختلاف الغرضين،فقصر أبو تمام الفرحعلى من شجاه التوديع،و أراد البحتري ليس شيء من المسرة إذا جاء في إثر شيء ماكالتلاقي بعد التفرق.غير أن الآمدي اعتبر ذلك من سرقات البحتري.

لقد عرفت السرقات طريقها إلى الفكر العربيمنذ العصر الجاهلي حسب قول "طرفة بن العبد":

و لا أغير على الأشعار أسرقها عنها غَنَيْتُ و شر الناس منسرقا

و إنّ أحسن بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدتهصدقا

و قال حسان ابن ثابت رضي الله عنه في شعرهالذي قاله قبل إسلامه :

لا أسرق الشعراء ما نطقوا بل لا يوافق شعرهم شعري

إني أبي لي ذلكم حسبي و مقالة كمقاطع الصخر

و أخي من الجن البصير إذا حاك الكلام بأحسن حبر

و قال الفرزدق يهجو جرير:

لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم و أوابدي بتنحل الأشعار

و قال جرير يهجو الراعي النميري:

ستعلم من يصير أبوه قينا و من عرفت قصائده اجتلابا

و قال الحاتمي معلقا على هذا البيت:{و ماأراه أراد بالإجتلاب ها هنا إلاّ السّرق و الإنتحال}

أنواع السرقات الشعرية:

1 ـ الإصطراف: و هو أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر،فيصرفهلنفسه،و هو نوعان:

1 ـالإجتلاب: وهو أن يجلب الشاعر بيتا من شعر غيره تمثلا به لا ادعاءتأليفه، كقول النابغة الذبياني:

وَصَهباءُ لا تُخفي القَذى وَهوَ دونها تُصَفِّقُ في راووقِها حينَ تقطب

تتَمَزَّزتُها والدّيكُ يدعو صباحهُ إذا ما بَنو نَعشٍدَنَوا فَتَصَوَّبوا

فاستلحق البيت الأخير بهما:

وَإِجانَةٍ رَيّا السُّرورِ كَأَنَّه إذا غُمَسَت فيها الزُّجاجَةُ كَوكَبُ

تَمَزَّزتُها والدّيكُ يدعو صباحهُ إذا ما بَنو نَعشٍ دَنَوا فَتَصَوَّبو

وربما اجتلب الشاعر البيتين كما قال عمرو ذوالطوق:

صَدَدْتِ الْكأسَ عَنّا أمُّ عَمْرو وَكَانَ الْكَأسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا

وما شرُّ الثلاثة أمَّ عمرو بصاحبِك الذي لا تَصْبَحِينا

فاستلحقهما عمرو بن كلثوم فهما في قصيدته.

· 2 ـ الإنتحال: وهو شبيه الاجتلاب إلا ان الشاعر هنا يدعي نسبة البيت إلىنفسه كقول جرير

إنَّ الذين غدوا بلبِّكَ غادرُوا = وشلاًبعينِكَ لا يزالُ معينَا

غيَّضنَ من عبراتهِنَّ وقلنَ لي = ماذا لقيتَمنَ الهوى ولقينَا

فإن الرواة مجمعون على أن البيتين للمعوطالسعدي انتحلهما جرير، وانتحل أيضا قول طفيل لغنوي:

ولما التقى الحَيّانِ أُلقيَت العصا ومات الهوى لمّا أُصيبت مَقاتلُهْ

وكذلك ما روي من أن عبد الله بن الزبيرالشاعر، دخل على معاوية فأنشده

إِذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاكَوَجَدْتَهُ على طَرَفِ الهِجْرَانِ إنْ كانَ يَعْقِلُ

ويَرْكَبُ حَدَّ السَّيْفِ مِنْ أَنْتَضِيمَهُ إِذا لَمْ يَكُنْ عَنْ شَفْرَةِ السَّيْفِمَزْمَل

فقال له معاوية: لَقَدْ شَعَرْتَ بَعْدِي يَاأبا بكر، ولم يفارق عبد الله بن الزبير الشاعر مجلس معاوية حتَّى دخَلَ مَعْنُ بنأوس المزني، فأنْشَدَهُ قصيدته التي يقول في مطلعها

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنِّي لأَوْجَلُ عَلَى أيِّنَا تَعْدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ

حتى أتمّها، وفيها البيتان اللَّذان أنشدهما"عبد الله بن الزبير". فأقبل معاوية على عبد الله وقال له: ألمتُخْبِرْني أنَّهُما لكَ؟! فقال عبد الله: المعنى لي، واللَّفْظُ له، وبَعْدُ فهوأخي من الرضاعة، وأنا أحقُّ بشِعْرِه

2الإغارة:

وتكون من القوي على الضعيف وهي أن يقول أحدالشعراء بيتا فيعجب من هو أقوى منه شعرا فيغير عليه وينسب إليه لذياع صيته عنصاحبه كما فعل الفرزدق بجميل وقد سمعه ينشد:

تَرى الناسَ ما سِرْنا يَسِيْرُوْنَ خلفنا وإنْ نحنُ أوْبَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا

فقال: متى كان الملك في بني عذرة؟ إنما هو فيمضر وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره.

3 الغصب:

وهي أن يغصب الشاعرُ الشاعرَ بيته دون رضاهكما فعل الفرزدق بالشردل اليربوعي، وقد أنشد في محفل:

فَما بَينَ مَن لَم يُعطَ سَمعاً وطاعةً وبَين تَميمٍ غَيرُ حَزِّ الحَلاقِمِ

فقال الفرزدق: والله لتدعنه أو لتدعن عرضك،فقال: خذه لا بارك الله لك فيه.

وقال ذو الرمة بحضرته: لقد قلت أبياتاً، إنلها لعروضاً وإن لها لمراداً ومعنى بعيداً، قال: وما قلت؟ فقال: قلت

أحينَ أعاذت بي تميمٌ نساءهَا وجُرّدت تجريدَ اليَمانِي من الغِمدِ

ومدت بضَبْعيَّ الرّبابُ ومالكٌ وعمروٌ وشالت من ورائي بنو سع

ومن آل يربوعٍ زُهَاءٌ كأنه دُجَى الليل محمود النِّكاية والوِرد

وكنّا إذا الجبّارُ صَعَّرَ خدَّه ضربناه فوق الأُنْثَيَيْن على الكَرْد

فقال له الفرزدق: إياك وإياها لا تعودنإليها، وأنا أحق بها منك، قال: والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبداً إلا لك

4 المرافدة:

و هي أن يهب الشاعرُ شاعرا آخر أبياتا نتشعره،إعانة له على الشعر،مثلما قال جرير لذي الرمة:أنشدني ما قلت لهشامالمرئي،فأنشده قصيدته:

نَبَتْ عيناكَ عن طَللٍ بحُزْوَى عَفَتْه الريحُ وامْتُنِحَ القِطارَ

فقال: ألا أعينك؟ قال: بلى بأبي وأمي، قال:قل :

يَعُدّ الناسبون إلى تَميم بيوتَ المجدِ أربعةً كِبارا

يَعُدُّون الرِّباب وآلَ سَعْدٍ وعَمْراً ثم حَنْظلةَ الخِيارا

ويَهْلِكُ بينها المَرَئيُّ لَغْواً كما ألغيتَ في الدِّية الحُوَارا

فلقيه الفرزدق، فلما بلغ هذه قال: جيد، أعده،فأعاده، فقال: كلا والله، لقد علكهن من هو أشد لحيين منك، هذا شعر ابن المراغة

والشاعر يستوهب البيت والبيتين والثلاثةوأكثر من ذلك، إذا كانت شبيهة بطريقته، ولا يعد ذلك عيباً؛ لأنه يقدر على عملمثلها، ولا يجوز ذلك إلا للحاذق المبرز

5ـ الإهتدام:

وهو أنت يأخذ الشاعر عن الآخر بعض بيته فيجيءبالمعنى نفسه ع تغيير في اللفظ، وكأنه هدم بعض البيت كقول النجاشي:

وكنْتُ كذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحيحةٍ ورِجْلٍ بها رَيْبٌ من الحَدَثا

فأخذ كثير القسم الأول واهتدم باقي البيتفجاء بالمعنى في غير اللفظ، فقال:

وكنتُ كذي رجلينِ رجلٍ صحيحةٍ ورجلٍ رمى فيها الزَّمانُ فشلَّتِ

6 ـ النظر والملاحظة:

فهو التحقيق في البيت لاستخلاص معنى ونسجه فيبيت آخر بأسلوب خاص كقول المهلل:

أنْبَضُوا مَعْجِسَ القِسِيِّ وأبْرَقْـ ـنا كما تُوْعِدُ الفُحولُ الفُحولا

نظر إليه زهير بقوله :

طْعُنُهُمْ ما ارْتَمَوا حتى إذا اطَّعَنُوا ضَاَرَب حتى إذا ما ضَارَبُوا اعْتَنَق

وأبو ذؤيب بقوله:

ضَروبٌ لِهاماتِ الرِّجالِ بِسَيفِهِ إِذا حَنَّ نَبعٌ بَينَهُم وَشَريحُ

7 ـ الإلمام:

وهو أن يلم الشاعر بمعنى البيت فيضعه بعينهفي بيت آخر من نسجه، وهو ضرب من النظر، كقول أبي شيص:

أَجِدُ المَلاَمَةَ فِي هَوَاكَ لَذِيدَةً حُبّاً لِذِكْرِكَ فَليَلُمْنِي اللُّوَّمُ

وقول المتنبي:

أَأُحِبُّهُ وأُحِبُّ فِيهِ مَلاَمَةً؟! إِنَّ الْمَلاَمَةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ

ويعد هذا مثالا على العكس وهو النوع العاشر.

8 الإختلاس:

وهو أن يختلس الشاعر عن الآخر فكرة ويستخدمهابمعناها في غرض آخر، كقول أبي نواس:

مَلِكٌ تَصَوَّرَ في القُلوبِ مِثالُهُ فَكَأَنَّهُ لَم يَخلُ مِنهُ مَكانُ

اختلسه من قول كثير:

أُريدُ لِأَنسى ذِكرَها فَكَأَنَّما تَمَثَّلُ لي لَيلى بِكُلِّ سَبيلِ

وقول عبد الله بن مصعب:

كَأَنَّكَ كُنتَ مُحتَكماً عَلَيهم تُخَيَّرُ في الأُبُوَّةِ ما تَشاءُ

ويروى كأنك جئت محتكماً عليهم اختلسه من قولأبي نواس:

خلّيتَ والحسنَ تأخذهُ تنتقى منه وتنتخِبُ

9 ـالموازنة:

وهي أن يقول الشاعر البيت يوازن بيت غيره إلافي المعنى فيعد سرقة في الأسلوب، أكثر منه في المعنى كقول كثير:

تَقولُ مَرضنا فَما عُدتنا وَكيفَ يَعودُ مريضٌ مَريضا

وازن في القسم الآخر قول نابغة بني تغلب:

بَخِلنا لِبُخلِكِ قَد تَعلَمينَ وَكَيفَ يَعيبُ بخيلٌ بخيلا

10 ـ العكس:

هو أن يعكس الشاعر معنى بيت لغيره فيجعله فيشعره، كقول ابن أبي قيس، ويروى لأبي حفص البصري

ذَهَبَ الزمانُ برهط حسّان الأولى كانَتْ مَناقبهم حديثَ الغابرِ

وبقيتُ في خَلْفٍ تحلُّ ضيوفُهُمْ فيهمْ بمنزلهِ اللئيم الغادِرِ

سودُ الوُجوهِ لَئيمةٌ أحسابهمْ فُطْسُ الأُنوفِ من الطرازِ الآخرِ

فوازن قول حسان بن ثابت وعكسه:

بيض الوجوهِ كريمةٌ أحسابهم شمُّ الأنوفِ من الطِراز الأوَّلِ

وقول أبي نواس:

قَالُوا عَشِقْتَ صَغِيرَةً فَأَجَبْتَهُمْ أَشْهَى المَطِيِّ إِلَيَّ مَا لَمْ يُرْكَبِ

كَمْ بَيْنَ حَبَّةِ لُؤْلُؤٍ مَثْقُوبَةٍ لُبِسَتْ وَحَبَّةِ لُؤْلُؤٍ لَمْ تُثْقَبِ

عكسه مسلم بن الوليد فقال :

إِنَّ المَطِيَّةَ لا يَلَذُّ رُكُوبُهَا حَتَّى تُذَلَّلَ بِالزِّمَامِ وَتُرْكَبَا

وَالْحَبُّ لَيْسَ بِنَافِعٍ أَرْبَابَهُ حَتَّى يُفَصَّلَ في النِّظَامِ وَيُثْقَبَا

11ـالمواردة:

وهي أن يقول الشاعران البيت الواحد لم يسمعهأحدهما من الآخر أو عنه سواء حتى وإن كان الاتفاق في بعض اللفظ وكل المعنى، كقولابن الأعرابي:

مُفِيدٌ ومِتْلاَفٌ إِذا مَا أتَيْتَهُ تَهَلَّلَ واهْتَزَّ اهْتِزَازَ المُهَنَّدِ

فقيل له: أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ؟ هَذالِلْحُطَيْئَة.

فقال ابن الأعرابي: الآن عَلِمْتُ أنّي شاعر،إذْ وافَقْتُهُ على قولِهِ ولم أسمعه إلاَّ السّاعة، أي: لم يَسْمَعْ قول الحطيئةإلاَّ في هذه الساعة.

وكذا ادعى البعض أن من المواردة قول طرفة بنالعبد:

وَقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ يَقُولُونَ: لاَ تَهْلَكْ أَسىً وتَجَلَّدِ

توارد مع قول امريء القيس:

وَقُوفاً بها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ يَقُولُونَ: لاَ تَهْلِكْ أسىًوتَجَمَّلِ

واستبعد ابن رشيق أن تكون هذه موارده وغلب أنيكون طرفة قد أخذه عن امريء القيس.

12 ـالإلتقاط و التلفيق:

وهو أن يلتقط الشاعر المعنى من أكثر من بيتلغيره فيجمعها في بيت كقول يزيد بن الطثرية:

إذا ما رآني مقبلاً غضَّ طرفه كأنَّ شعاعَ الشمسِ دوني مقابله

فأوله من قول جميل:

إِذا ما رَأَوني طالعاً من ثَنيةٍ يقولون: مَن هذا؟ وقد عَرَفوني

ووسطه من قول جرير:

فَغُضَّ الطَّرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ فَلا كَعباً بَلَغتَ ولا كِلابا

وعجزه من قول عنترة الطائي:

إِذا أَبصَرتَني أَعرضتَ عَني كَأَنَّ الشَّمسَ مِن حَولي تَدورُ

13ـ كشفالمعنى:

وهو أن يأخذ الشاعر معنى من شعر غيره به بعضلبس أو صعوبة فهم فيبسطه ويكشفه، كقول امرئ القيس:

نمشي بأعراف الجياد أكفنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهب

وقال عبدة بن الطبيب بعده:

ثمة قمنا إلى جُردٍ مسومة أعرافهن لأيدينا مناديل

فكشف المعنى وأبرزه.

14 ـ الإتباع:

وهو أن يتبع الشاعر غيره في المعنى فيزيد أويساوي أو ينقص في المعنى،

فإن زاد فهذا فضل، كقول عنترة:

وإذا صحوتُ فما أُقصّر عن ندىً وكما علمت شمائلي وتكرّمي

أخذه من قول امريء القيس:

وشمائلي ما قد علمت، وما نبحت كلابك طارقاً مثلي

غير أن بيت عنترة رزق اشتهارا لم يرزقه بيتامريء القيس، وهذا يكون لفضل جعله التابع في بيته كأن يوجز المفصل أو أن يبسطالمعنى أو أن يتخير حسن اللفظ وسلاسته، وكذا قول أبو نواس:

أقول لناقتي إذا بلغتني لقد أصبحت مني باليمين

فلم أجعلك للغربان نحلاً ولا قلت " اشرقي بدم الوتين

أخذه من قول الشماخ:

إذا بلَّغتَني وَحَمَلتِ رَحلي عرابةَ فاشرقي بدم الوتين

وإن تساوى المعنيان فله فضيلة حسن الاقتداءويبقى الفضل لمبتدع المعنى، كقول امريء القيس:

فلو أنها نفسٌ تموتُ جَميعَةً و لكنَّها نَفْسٌ تَساقَطُ أنْفُسا

أخذه عبدة الطيب فقال:

فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُه هُلْك وَاحِدٍ ولِكَّنهُ بُنيانُ قَوْمٍ تَهَدَّما

فلم يزد في المعنى شيء.

· فأما إن نقص المعنى فهذا سوءالاتباع، حيث يكون المعنى رديئا ويتبعه أحدهم في رداءته فلا يحسِّنه، كقول أبيتمام:

باشرت أسباب الغنى بمدائح ضربت بأبواب الملوك طبولا

فقال أبو الطيب:

إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ففي الناس بوقات لها وطبول

وقد قسم ابن الأثير السرقات إلى خمسة أقساملكل منها أقسام تتضمنها:

أ‌- النسخ فهو أخذ اللفظ والمعنى برمته منغير زيادة عليه مأخوذا ذلك من نسخ الكتاب.

ب‌- السلخ فهو أخذ بعض المعنى مأخوذا ذلك منسلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ

ت‌- المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونهمأخوذا ذلك من مسخ الآدميين قردة

ث‌- أخذ المعنى مع الزيادة عليه

ج‌- عكس المعنى إلى ضده

وقد فصَّل أسامة بن منقذ في كتابة"البديع في نقد الشعر" موضوع السرقات فأجاد.

المحاضرة السابعة نظرية النظم في النقد الأدبي القديم

مفهوم النظم لغة:

يرى صاحب كتاب "قاموس المحيط"أن{النظم هو تأليف و ظم شيء إلى شيء آخر}

أما "ابن منظور"،فيرى في"لسان العرب" بأن النظم:{التأليف...و النظم:ما نظمته من لؤلؤ و خرز وغيرهما}.منه نظمت،و كل شيء قرنته بآخر،ظممت بعضه إلى بعض،فقد نظمته.

أما في:

الإصطلاح:

فهو تعليق الكلم بعضها ببعض،و جعل بعضها بسببمن بعض.و لما كانت الحاجة ماسة و ملحة،لمعرفة تمييز جيد الكلام من رديئه،و أصبحالكلام أحق العلوم الإنسانية،بالدراسة و التعليم،بعد معرفة الله عز و جل،لذلك قالأبو هلال العسكري:{إن أحق َّ العلوم بالتعلم و أولاها بالتحفظ،بعد معرفة الله عزوجل ثناؤه،علم البلاغة،و معرفة الفصاحة،الذي يعرف به إعجاز كتاب الله تعالى.و قدعلمنا أن الإنسان،إذا أغفل علم البلاغة،و أخلَّ بمعرفة الفصاحة،لم يقع علمه بإعجازالقرآن من جهة،ما خصه الله به،من حسن التأليف و بلاغة التركيب}

لقد وجه "المعتزلة" دراستهم لبيانالأسلوب،فكانوا أقدر من غيرهم على تفهم دقائق النظم،لما توفر لهم من قدرة فيالفصاحة و البيان،و تنوع في الثقافات،و جمعُهم لعيون الأدب شعرا و نثرا.و قدحاولوا الكشف عن معاني الأساليب المختلفة،ليصلوا منها إلى الوجه الذي يرضيذوقهم،فلاحظوا ملاحظات عامة في الكلام و دَوَّنُوها في كتبهم.

إذ ألف "بشر بن المعتمر":صحيفة فيالبلاغة،يرشد الناس فيها،إلى القول البليغ و خصائصه.و تبعه "الجاحظ"فألف كتاب:"البيان و التبيين"،فرأى أن الألفاظ دائما،ليست على قياسالمعاني،للمعاني أقدار ينبغي أن يعرفها و يدركها المرء.فهي حسب أقدار المستمعين ومستوياتهم الفكرية.و أن القرآن الكريم يدل بالكلمة المختصَرة على معان عديدة،يطولشرحها،أي تضمين المعنى الكبير في اللفظ اليسير.

كان النحاة كالمعتزلة من أوائل من اهتم بحقلالنظم في الدراسات اللغوية،و ذلك عندما درسوا السلاسل الكلامية و حلَّلُوها.وتناولوا الجملة و ما يعتريها من تقديم المسند إليه و تأخيره،و ما يصيبه{المسندإليه} من ذكر و حذف،و ما ينالها{الجملة} من فصل و وصل.

لعل "سيبويه" هو الرائد الأول لهمفي دراسة ذلك،باستقصاء فيما قدم في كتابه،و نقل عنه من تلاه.

فنشأت كلمة نظم عند "الأشاعرة"،لأنالنظم اصطلاح،يشيع في بيئتهم،و إن كان يجري على بعض ألسنة المعتزلة؛مثلالجاحظ؛الذي ألّف كتابا في نظم القرآن،و "القاضي الجرجاني" الذي تناولالنظم بشيء من الدقة و التفصيل؛إذ نفى أن يكون مرجع الفصاحة التي يفسر بها الإعجازالقرآني،و التي يتفاضل فيها البلغاء.إلى اللفظ أو المعنى أو إلى الصور البيانية،وإنما مرجعها إلى الأسلوب و الآداء و الصياغة النحوية للتعبير،و كان رأيه هذاإشعاعا مضيئا ألهم "عبد القاهر الجرجاني" تفسيره للنظم.

تداولت هذه الكلمة{النظم} بين عديد من النقادفي ذلك الزمان أمثال: "سيبويه" ،"الرماني"،"الخطابي"،"أبو الهلال العسكري" و "ابن قيبة".

لعل الذي عالج هذه القضية،بدقة و وضوح،قبل"عبد القاهر الجرجاني" هو:"القاضي أبو الحسن عبد الجبار الأسدأبادي"؛إذ يوضح النظم:{بالتئام الكلمات بعضها مع بعض و مراعاة الإعراب والحركات،فيجعل النحو ركنا مهما في النظم،حتى تتحقق له البلاغة،و أشار القاضي عبدالجبار إلى أن فكرة "النّظم"،لا تكون في الكلمة المفردة،و إنما في ترابطبعضها ببعض،بصورة متميزة،يُراعى فيها تركيبها اللغوي و النحوي،بالنسبة لسواها،ممنهو معه في جملتها... و لابد أن يكون لكل كلمة صفة،و قد تكون هذه الصفة بالمواضعةالتي تتناول،و قد تكون بالإغراب الذي له مدخل فيه،و على هذا النحو تظهر فصاحةالكلام و مزيته...ثم تناول مميزات اللفظ و محاسنه و عيوبه، المعاني و جودتها،ليصل منخلال ذلك إلى عملية النظم التي برزت بشكل جلي بعد ذلك،على يد عبد القاهرالجرجاني؛إذ يقول:{اعلم أن الكلام الذي قدمناه من أنَّ الكلام،إنما يدلبالمواضعة،و أن المتكلم به إذا كان حكيما،فلابد تجرد للكلام من أن يريد ما يقتضيهظاهرهُ،و إلاّ كان مُلْبَسا أو مَعْمِي أو فاعلا فعلا قبيحاً،و أنَّ هذه الطريقةتقتضي في جميع الكلام أن يدل على حد واحد}

لم يقف "عبد الجبار" عند هذا الحدمن التوضيح،بل تعداه إلى وجود التفاضل بفصاحة التعبير،إلى الحديث عن أبواب النحو وما ترسمه من فروق دلالية في العبارات،فهو لا يريد الحركات الإعرابية فحسب،بل يشيرأيضا إلى ما هو أعمق من ذلك،و أعني به نظم الكلام،و هو نفس المعنى الذي أكده"عبد القاهر" في كتابه "دلائل الإعجاز".لذلك كان "القاضيعبد الجبار" سابقا إلى نظرية النظم التي أوضحها عبد القاهر فيما بعد.

جهود عبد القاهر الجرجاني في نظريةالنظم:

تحددت معالم النظم و اتضحت قسماته على يد عبدالقاهر الجرجاني دون غيره،لأن النظم قبل عبد القاهر لم يكن مقصودا عن عمد أومدروسا بطريقة مباشرة،و إنما هي شيء عفوي،نابع من ملاحظات العلماء حين يُؤخذونبجمال الشِعر أو الإعجاز في القرآن الكريم في داخل هذا النطاق فحسب.أماَّ عند عبدالقاهر؛فهو عمل مدروس،و محور يدور حوله كتابه"دلائل الإعجاز" كله،و هوالقصد من تلك الدراسة الواسعة التي نهضت على أكتاف "النحو"،و على تماسكلَبِنَاتِهِ،حتى أنه يُرجع كل جمال في النظم إلى مراعاة أحكام النحو.

تصدّى عبد القاهر الجرجاني لذلك التيار الذياهتم باللفظ دون المعنى،و هاجم الدعوة إلى إهمال الشعر و الإنصراف عن علمالنحو،لأن ذلك يؤدي إلى الصّد عن معرفة حجة الله في إعجاز القرآن،فأكّد في أكثر منموضع أهمية النّظم،و توخي معاني النحو و أحكامه بين الكلم،بأنه كان من أعجب العجبأن يزعم زاعم أنه يطلب المزية في معاني النحو و أحكامه،و توخيها فيما بينالكلم،فإن اقتصر البعض على المزية المحصورة بنظم الكلم ،و بأن النظم هو نَظْمٌللألفاظ دون المعاني.دون المزية الأخرى في توخي معاني النحو،فإنهم لم يصلو إلىحقيقة الإعجاز باعتقادهم أن الفصاحة لا تظهر بأفراد الكمات،و إنما تظهر بالضم علىطريقة مخصوصة و يقصد بهذا الكلام القاضي عبد الجبار الذي قال:{إنَّ المعاني لاتتزايد،و إنما تتزايد الألفاظ}.

نستنتج من ذلك أن:

ـ عبد القاهر الجرجاني ليس من أنصار الألفاظ من حيث هيكَلِم مفردة،و ليس من أنصار المعاني التي هي أساس كل شيء،بغض النظر عن تجانسالألفاظ و تلاحمها،و إنما هو من أنصار الصياغة،من حيث دلالة هذه الصياغة على جلاءالصورة الأدبية.

ـ كما أنه ليس ممن يتأرجح بين اللفظ و المعنى،بل هو ممنجمع بينهما و سوّى بين خصائصهما و جعلها شيئا واحدا يعتمد على الصياغة.

ـأساس المفاضلة عنده هي صورة المعنى،لا المعنى الغفلالخام،و خضوع اللفظ في ترتيب الخارجي لترتيب الصورة المعنوية في النفس.

ـ لا فضل بين الألفاظ و معانيها،و لا بين الصورة والمحتوى،و لا بين الشكل و المضمون في النص الأدبي

ـ إن البلاغة في النظم لا في الكلمة المفردةنو لا فيمجرد المعاني،و الباحث عن الإعجاز عليه أن يُشبعه في النظم وحده.

ـ عرض لوجوه تركيب الكلام وفق أحكام النحو،مستنبطاالفروق بينهما،عارضا لأسرار المزية و الحسن و البلاغة فيها.

المحاضرة الثامنة : نظرية الإعجاز عند الجرجاني

تمهيد:

لقد سبقالعديد من النقاد الجرجاني إلى الإعجاز بالنظم،و لعل أول من تطرق إلى هذه القضية "أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الذي توفي سنة:255هـ،فيكتابه "إعجاز القرآن في نظمه"،غير أنه كتاب مفقود و لا يُذكر منهإلاّ اسمه.و من آراءه في الإعجاز قوله:{و في كتابنا الذييدلنا على أنه أصدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد،مع ما سوى ذلك منالدلائل التي جاء بها}

أما ابن قتيبةالذي توفي سنة 276هـ في كتابه "تأويل مشكل القرآن"،الذييُعد من الآثار الجليلة التي خدمت لغة القرآن و أسلوبه،إذ يقول في مقدمة كتابه عنالإعجاز بالنظم{و الحمد لله الذي نهج لنا سبل الرشاد،وهدانا بنور القرآن،و لم يجعل له عوجا،بل نزله قيما مفصلا بيِّنا،لا يأتيه الباطلمن بين يديه و لا من خلفه،تنزيل من حكيم حميد،و قطع بمعجز التأليف أطماعالكائدين،و أبانه بعجيب النظم عن حيل المتكلمين،و جعله متلوا يمل على طولالتلاوة،و مسموعا لا تمجه الآذان،و غضا لا يخلق على كثرة الترداد،و عجيبا لا تنقضيعجائبه،و مفيدا لا تنقطع فوائده...و جمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه}

أما الرماني توفيسنة 386 هـ فقد جاء في رسالته"النكت فيإعجاز القرآن"،فيقول تحت "بابالتلاؤم":{التلاؤم نقض التنافر،و التلاؤمتعديل الحروف في التأليف،و التأليف على ثلاثة أوجه:و ذلك بيِّن لمن تأمله...والتلاؤم في التعديل من غير بُعد شديد يظهر بسهولته على اللسان،و حسنه في الأسماع،وتقبله في الطباع،فإذا انضاف إلى ذلك حسن البيان في صحة البرهان في أعلىالطبقات،ظهر الإعجاز}

كانتالبداية للجاحظ و غيره من العلماء،لكن الجرجاني يعد هو الأب الفعلي لقضية الإعجازبالنظم، فهو الذي بلور أسسها و قواعدها، و أحكم بناءها،فنضجت على يد الجرجاني شيخ البلاغة "و رأيه في الإعجاز قائم على التربية الفنية،تربية الذوق والإحساس و الشعور،و ذلك بممارسة أي نص أدبي أو قرآني،حتى إذا ما ألف الذوقالنقد،مارس النص باحثا عن الجمال فيه،ففي نظمه يكم سر إعجازه"

إذا كان عبد القاهر يقربأن تربية الذوق إحدىالدعائم التي تُعِينُ على إدراك سر الإعجاز بالنظم في القرآن،فما دليله على ذلك؟

إننا نجد الدليل واضحا؛ فيما يسوقه من الآثار الأدبية و النصوصالقرآنية محللا و مفسرا،إذ يقول في دلائل الإعجاز:[إنكم تتلون قوله تعالى:{قٌللَئِن اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ و الجِنُ عَلَى يأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} سورة الإسراء الآية:88. و قوله عز وجل:{فَأْتُوا بِعَشْرِسُوَرٍ مِثْلِهِ} سورة هود:الآية 13

و قوله عز وجل{بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} سورةالبقرة23

فقولوا الآن،أيجوز أن يكون ـتعالى ـقد أمرنبيه ـ صلى الله عليه و سلم.بأن يتحدّى العرب أن يُعارضوا بمثله،من غير أنيكونوا قد عرفوا الوصف الذي جاءهم من قبلهالتحدي؟

و لابد في الجواب من "لا"،لأنهم إنقالوا:يجوز،أبطلوا التحدي من حيث إنه ـ كما لا يخفى ـ مطالبة بأن يأتوا بكلام علىوصف،و لا تصح المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلوماللمطالب،و يُبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضا"

و هذا الوصف الذي يمهد به عبد القاهر،أ يكونفي اللفظة المفردة أم التركيب؟أم المعاني؟أم الحركات و السكنات؟أم المقاطع والفواصل؟أم فيما يجد من صورة بديعة مبنية على إستعارة أو تشبيه؟

إذا امتنع الإعجاز لدى عبد القاهر الجرجانيبهذا كله،ففي ماذا يكون؟

إن الإشارة إلى الممهد به لا يعين على فهمهإلاّ فحصه بتذوق النظم و حلاوته،فبالنظم و التأليف يكون الإعجاز،و ليس هذا الأمرإلاّ في القرآن.و هذا شاهد على ما ذكره الجرجاني،و ذهب إليه في الإعجاز بالنظم،إذيقول في كتابه "دلائل الإعجاز":[هل تشك إذا فكرت في قوله تعالى:{وَقِيلَيَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ المَاءُ وَ قُضِيَالأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِالظَالِمِينَ}سورة هود:44

فتجلى لك منها الإعجاز،و بهرك الذي ترى وتسمع،أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة،و الفضيلة القاهرة،إلاّ لأمر يرجع إلىارتباط هذه الكلم بعضها ببعض،و أن لم يَعرِض الحُسن و الشرف،إلاّمن حيث لاقتالأولى بالثانية،و الثالثة بالرابعة،و هكذا،إلى أن تستقر بها إلى آخرها،و أن الفضلتَنَاتَجَ ما بينها و حصل من مجموعها؟

إذا شككت فتأمل:هل ترى لفظة منها بحيث لوأُخِذَتْ من بين أحواتها و أُفْرِدَت،لَأَدَّت من الفصاحة ما تؤديهنو هي في مكانهامن الآية؟

قُلْ:{ابْلَعِي}و اعتبِرْها وحدها،من غير أنتنظر إلى ما قبلها و إلى ما بعدها و كذلك اعتبِرْ سائر ما يليها.

و كيف بالشك في ذلك؟ومعلوم أن مبدأ العظمة فيآنْ نُودِيت الأرض،ثم أمِرَت،ثم كان النداء ب"يا" دون "أي"،نحو: يا أيتها الأرض،ثم أمِرتْ،ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يُقال:ابلعيالماء،ثم اتبع نداءُ الارضِ و أَمْرُها بما هو من شأنها،نداء السماء أمرها بمايخصها،ثم ثم أن قيل:{وً غِيضَ المَاءُ}.فجاء الفعل مبنيا للمفعول،و تلك الصيغة تدلعلى أنه لم يَغِضْ إلاّ بأمر آمر،و قدرة قادر،ثم تأكيدذلك و تقريره،بقولهتعالى:{وَ قُضِيَ الأَمْرُ}.ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور،و هو {اسْتَوَتْ عَلَىالجُودِيِّ}.ثم إظهار السفسنة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة،و الدلالة على عِظَمِالشأن،ثم مقابلة {قِيلَ}في الخاتمة ب{قِيلَ} في الفاتحة.

أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤكبالإعجاز روعة،و تحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها.تعلق باللفظ من حيثهو صوت مسموع،و حروف تتوالى في النطق،أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الإتساقالعجيب؟]و بمثل هذا الأسلوب التحليلي الرائع يصل عبد القاهر الجرجاني إلى ما يريدمن تقرير ما أسلف،من أن الشأن للنظم كاملا،و لا شيء من الإعتبار للفظ وحده قبل أنيدخل في هذا النظم المعجز،و لا شك أن تحليل عبد القاهر للآية الكريمة تحليل خبيربدرجات الكلام،هداه إليه فكر ثاقب،و بصيرة نيِّرةٍ،و ذوق سليم.

يشير الدكتور "بدوي طبانة" فيكتابه "البيان العربي"،إلى أن عبد الاهر في عرضه لهذه الآية نسِيَ فضلالألفاظ المختارة،فهنالك قبل هذا النظم و هذا التلاؤم الذي فصّله،و هذا الوضعللكلمات على هذا النسق العجيب ـتخيّرَ لكل لفظ ـو لا شك أن هنالك ألفاظا غير هذهالألفاظ.كان يمكن أن تؤدّى بها هذه المعاني،و لكن الفضل يظهر في التخير والإنتقاء،المبني على تفضيل لفظ على لفظ آخر.

هذا ما أمكننا تلخيصه عن الشواهد و الأمثلةالتي جاء بها الجرجاني من القرآن الكريم،و مأثور الكلام العربي،و لو أوردنا كل ماساقه الجرجاني من شواهد،لأفضى بنا ذلك إلى الإستطراد،و ما ذكره من ذلك قار فيموضعه من كتابيه"أسرار البلاغة"و "دلائل الإعجاز"،و يمكن لأيباحث الوقوف عليه.


منصة التعليم عن بعد - جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف (2024)

References

Top Articles
Latest Posts
Article information

Author: Stevie Stamm

Last Updated:

Views: 5876

Rating: 5 / 5 (60 voted)

Reviews: 91% of readers found this page helpful

Author information

Name: Stevie Stamm

Birthday: 1996-06-22

Address: Apt. 419 4200 Sipes Estate, East Delmerview, WY 05617

Phone: +342332224300

Job: Future Advertising Analyst

Hobby: Leather crafting, Puzzles, Leather crafting, scrapbook, Urban exploration, Cabaret, Skateboarding

Introduction: My name is Stevie Stamm, I am a colorful, sparkling, splendid, vast, open, hilarious, tender person who loves writing and wants to share my knowledge and understanding with you.